الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الذّكر لغةً مصدر ذكَر الشّيء يذكره ذِكْراً وذُكْراً، وقال الكسائيّ: الذّكر باللّسان ضدّ الإنصات ذاله مكسورة، وبالقلب ضدّ النّسيان وذاله مضمومة، وقال غيره: بل هما لغتان. وهو يأتي في اللّغة لمعانٍ: الأوّل: الشّيء يجري على اللّسان، أي ما ينطق به، يقال: ذكرت الشّيء أذكره ذكراً وذكرًا إذا نطقت باسمه أو تحدّثت عنه، ومنه قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا}. والثّاني: استحضار الشّيء في القلب، ضدّ النّسيان. قال تعالى حكايةً عن فتى موسى: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}. قال الرّاغب في المفردات، ونقله عنه صاحب القاموس في بصائره: " الذّكر تارةً يراد به هيئة للنّفس بها يمكّن الإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة، وهو كالحفظ، إلاّ أنّ الحفظ يقال اعتبارًا بإحرازه، والذّكر يقال باعتبار استحضاره، وتارةً يقال لحضور الشّيء القلب أو القول. ولذلك قيل: الذّكر ذكران: ذكر بالقلب، وذكر باللّسان، وكلّ واحدٍ منهما ضربان: ذكر عن نسيانٍ، وذكر لا عن نسيانٍ، بل عن إدامة حفظٍ. وكلّ قولٍ يقال له ذكر. ومن الذّكر بالقلب واللّسان معاً قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}. أمّا في الاصطلاح فيستعمل الذّكر بمعنى ذكر العبد لربّه عزّ وجلّ، سواء بالإخبار المجرّد عن ذاته، أو صفاته، أو أفعاله، أو أحكامه، أو بتلاوة كتابه، أو بمسألته ودعائه، أو بإنشاء الثّناء عليه بتقديسه، وتمجيده، وتوحيده، وحمده، وشكره وتعظيمه. ويستعمل الذّكر اصطلاحاً بمعنىً أخصّ من ذلك، فيكون بمعنى إنشاء الثّناء بما تقدّم، دون سائر المعاني الأخرى المذكورة. ويشير إلى الاستعمال بهذا المعنى الأخصّ قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن اللّه تعالى: «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين». فجعلت الآية الذّكر غير الصّلاة، على التّفسير بأنّ نهي ذكر اللّه عن الفحشاء والمنكر أعظم من نهي الصّلاة عنهما، وجعل الحديث الذّكر غير تلاوة القرآن، وغير المسألة وهي الدّعاء. وهذا الاستعمال الأخصّ هو الأكثر عند الفقهاء، حتّى إنّ ابن علّان ذهب إلى أنّه الحقيقة، وأنّ استعماله لغير ذلك من المعاني مجاز. قال: " أصل وضع الذّكر هو ما تعبّدنا الشّارع بلفظه ممّا يتعلّق بتعظيم الحقّ والثّناء عليه ". وذكر الحديث «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم امتنع من ردّ السّلام على المهاجر بن قنفذٍ حتّى توضّأ ثمّ قال: إنّي كرهت أن أذكر اللّه تعالى إلاّ على طهرٍ». قال ابن علّان: جواب السّلام ليس موضوعاً لذلك، أي للثّناء والتّعظيم. فإطلاق الذّكر عليه مجاز شرعيّ سببه - أي علاقته - المشابهة أي من حيث هو قول يبنى عليه الثّواب. وأطلق الذّكر في القرآن على عدّة أمورٍ باعتبار المعنيين اللّغويّين أو واحدٍ منهما، فأطلق على القرآن العظيم نفسه في مثل قوله تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} وقال: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ}. وأطلق على التّوراة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. وأطلق على كتب الأنبياء المتقدّمين. قال الرّاغب: قوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} أي الكتب المتقدّمة. وقال الزّبيديّ: كلّ كتابٍ من كتب الأنبياء ذكر، وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} أي هذا هو الكتاب المنزّل على من معي والكتاب الآخر المنزّل على من تقدّمني، وهو التّوراة والإنجيل والزّبور والصّحف، وليس في شيءٍ منها أنّ اللّه أذن بأن تتّخذوا إلهاً من دون اللّه. وقد فسّرت الآية أيضاً بغير ذلك. وأطلق الذّكر على النّبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً، رَّسُولاً}. فقد قيل: إنّ الذّكر هنا وصف للرّسول صلى الله عليه وسلم كما أنّ الكلمة وصف لعيسى عليه السلام، من حيث إنّه بشّر به في الكتب المتقدّمة. وأطلق الذّكر بمعنى الصّيت، ويكون في الخير والشّرّ، وبمعنى الشّرف، من حيث إنّ صاحبهما يذكر بهما. وقد فسّر بهما قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ}. وأطلق الذّكر بمعنى الاتّعاظ وما يحصل به الوعظ، وقد فسّر بذلك قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} وقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِينَ} قال الرّازيّ: المعنى: أنردّ عنكم النّصائح والمواعظ. وقد فسّرت بغير ذلك. وأطلق الذّكر في السّنّة النّبويّة على اللّوح المحفوظ، وذلك في قول النّبيّ: «وكتب اللّه في الذّكر كلّ شيءٍ» أي لأنّ اللّوح محلّ للذّكر كتب اللّه فيه كلّ شيءٍ من الكائنات. ويشتمل هذا البحث على ما يلي: أ - الذّكر بمعنى ذكر اللّه تعالى والثّناء عليه. ب - والذّكر بمعنى النّطق باسم الشّيء. ج - والذّكر بمعنى استحضار الشّيء في القلب. د - والذّكر بمعنى الشّهرة والصّيت والشّرف. وأمّا الذّكر بسائر المعاني فتنظر أحكامه في مواضع أخرى (ر: قرآن. توراة. إنجيل. وعظ. دعاء).
2 - الذّكر محبوب مطلوب من كلّ أحدٍ مرغّب فيه في جميع الأحوال، إلاّ في حالٍ ورد الشّرع باستثنائها، كحال الجلوس على قضاء الحاجة، وحال سماع الخطبة على ما يأتي. ودليل استحبابه أنّ اللّه أمر به في آياتٍ كثيرةٍ، ونهى عن ضدّه من الغفلة والنّسيان، وعلّق الفلاح باستدامته وكثرته، وأثنى على أهله وجعلهم أهل الانتفاع بآياته، وأنّهم أولو الألباب، وأخبر عن خسران من لها عن الذّكر بغيره، وجعل ذكره تعالى لأهله جزاء ذكرهم له، وأخبر أنّه أكبر من كلّ شيءٍ، وجعله قرين الأعمال الصّالحة، وجعله مفتتحها ومختتمها، في آياتٍ كثيرةٍ يرد بعضها أثناء هذا البحث لا نطيل بذكرها هنا. ويزداد استحباب الذّكر في مواضع يأتي تفصيلها. وقد يكون واجباً، ومن الذّكر الواجب بعض أذكار الصّلاة كتكبيرة الإحرام وقراءة القرآن. ومن الذّكر الواجب الأذان والإقامة على القول بأنّهما يجبان على الكفاية، وردّ السّلام، والتّسمية على الذّبيحة. فينظر تفصيل أحكام كلٍّ منها في موضعه. وقد يكون الذّكر حراماً، وذلك كأن يتضمّن شركًا كتلبية أهل الجاهليّة، أو يتضمّن نقصاً، مثل ما كانوا يقولونه في أوّل الإسلام: السّلام على اللّه من عباده، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تقولوا السّلام على اللّه فإنّ اللّه هو السّلام ولكن قولوا: التّحيّات للّه والصّلوات والطّيّبات...» فإنّ السّلام إنّما يطلب لمن يحتاج إليه، واللّه هو السّلام، فالسّلام يطلب منه ولا يطلب له، بل يثنى عليه به نحو «اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام». وقد يحرم الذّكر في أحوالٍ خاصّةٍ كالذّكر في حال خطبة الجمعة. وتفصيله في مصطلح: (صلاة الجمعة). وقد يكون الذّكر مكروهاً وذلك في أحوالٍ خاصّةٍ يرد ذكرها أثناء البحث.
3 - تتبيّن منزلة الذّكر بين شعائر الدّين بوجوهٍ كثيرةٍ منها ما يلي: الأوّل: أنّ الذّكر بالمعنى الشّامل لتلاوة كتاب اللّه تعالى هو أفضل الأعمال على الإطلاق، ونقل ابن علّان عن شرح المشكاة لابن حجرٍ أنّ قضيّة كلام الشّافعيّة أنّ الجهاد أفضل من الذّكر. ووجه الأوّل ما في حديث أبي الدّرداء مرفوعاً «ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذّهب والفضّة، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ قالوا: بلى، قال: ذكر اللّه». قال صاحب نزل الأبرار: أفاد الحديث أنّ الذّكر خير الأعمال على العموم، وأنّه أكثرها نماءً وبركةً وأرفعها درجةً. ومثله حديث «الغازي في سبيل اللّه لو ضرب بسيفه في الكفّار حتّى ينكسر ويختضب دماً لكان الذّاكرون اللّه أفضل منه درجةً» واستشكل بعض العلماء تفضيل الذّكر على الجهاد مع ورود الأدلّة الصّحيحة أنّه أفضل الأعمال، وجمع بعض أهل العلم بين ذلك بأنّه باعتبار الأشخاص والأحوال فمن كان مطيقًا للجهاد قويّ الأثر فيه فأفضل أعماله الجهاد، ومن كان كثير المال فأفضل أعماله الصّدقة، وغير هذين أفضل أعماله الذّكر والصّلاة ونحو ذلك. قال الشّوكانيّ: ولكن يدفع هذا تصريحه صلى الله عليه وسلم بأفضليّة الذّكر على الجهاد نفسه في هذه الأحاديث. وجمع ابن حجرٍ بأنّ المراد بالذّكر الّذي هو أفضل، من الجهاد، الذّكر الكامل الجامع بين ذكر اللّسان وذكر القلب بالتّفكّر والاستحضار، فالّذي يحصل له ذلك يكون أفضل ممّن يقاتل الكفّار من غير استحضارٍ لذلك، وأفضليّة الجهاد هي بالنّسبة للذّكر اللّسانيّ المجرّد. ونقل عن ابن العربيّ أنّ وجه الجمع أنّه ما من عملٍ صالحٍ إلاّ والذّكر مشترط في تصحيحه، فمن لم يذكر اللّه بقلبه فليس عمله كاملاً، فصار الذّكر أفضل الأعمال من هذه الحيثيّة. وأفضل أهل كلّ عملٍ أكثرهم فيه ذكراً للّه تعالى، فأفضل المصلّين أكثرهم ذكراً للّه، وأفضل الصّائمين أكثرهم في صومهم ذكراً للّه، وكذا الحجّاج والعمّار، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «سبق المفرّدون، قالوا ومن المفرّدون يا رسول اللّه، قال: الذّاكرون اللّه كثيرًا والذّاكرات» وذمّ اللّه تعالى المنافقين بقلّة الذّكر في صلاتهم، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً}. الثّاني: أنّ جميع العبادات إنّما شرعت لإقامة ذكر اللّه تعالى من ذلك قول اللّه تعالى في شأن الصّلاة {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المساجد «إنّما هي لذكر اللّه عزّ وجلّ والصّلاة وقراءة القرآن». الثّالث: أنّ اللّه تعالى مع الذّاكرين بالقرب والولاية والنّصر والمحبّة والتّوفيق، وأنّه يذكر من ذكره، ومن نسي اللّه نسيه وأنساه نفسه. قال اللّه تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ}. وقال: {نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ}. وفي الحديث عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يقول اللّه تعالى: أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم». الرّابع: أنّ ذكر اللّه تعالى يحصّن الذّاكر من وسوسة الشّيطان ومن أذاه قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}. وعن ابن عبّاسٍ قال: ما من مولودٍ إلاّ على قلبه الوسواس، فإذا عقل فذكر اللّه خنس، وإذا غفل وسوس. الخامس: ما في الذّكر من الأجر العظيم، ومن ذلك ما في الحديث «ألا أحدّثكم شيئًا تدركون به من سبقكم،وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلاّ من صنع مثل ما صنعتم، قالوا بلى يا رسول اللّه. قال: تسبّحون وتحمدون وتكبّرون خلف كلّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثين». السّادس: أنّ الذّكر يكسو الذّاكرين الجلالة والمهابة ويورثهم محبّة اللّه الّتي هي روح الإسلام، ويحيي عندهم المراقبة له والإنابة إليه والهيبة له وتتنزّل السّكينة. وفي الذّكر حياة قلب الذّاكر ولينه، وزوال قسوته، وفيه شفاء القلب من أدواء الغفلة وحبّ المعاصي، ويعين الإنسان على ما سواه من الطّاعات، وييسّر أمرها، فإنّه يحبّبها إلى الإنسان ويلذّها له، فلا يجد لها من الكلفة والمشقّة ما يجده الغافل. وفي الصّحيح مرفوعاً «مثل الّذي يذكر ربّه والّذي لا يذكر ربّه مثل الحيّ والميّت». ومعنى الحديث أنّ التّارك للذّكر وإن كان في حياةٍ ذاتيّةٍ فليس لحياته اعتبار، بل هو شبيه بالأموات حسًّا الّذين أجسادهم عرضة للهوامّ، وبواطنهم متعطّلة عن الإدراك والفهم. السّابع: أنّ الذّكر أيسر العبادات مع كونه أجلّها وأفضلها وأكرمها على اللّه تعالى، فإنّ حركة اللّسان أخفّ حركات الجوارح، فيه يحصل الفضل للذّاكر وهو قاعد على فراشه وفي سوقه، وفي حال صحّته وسقمه، وفي حال نعيمه ولذّته، ومعاشه، وقيامه، وقعوده، واضطجاعه، وسفره، وإقامته، فليس شيء من الأعمال الصّالحة يعمّ الأوقات والأحوال مثله. هذا ويأتي قريباً بعض ما ورد في التّسبيح والتّحميد، وسائر أنواع الذّكر من الفضل نوعاً نوعاً.
4 - الذّكر يكون باللّسان وبالقلب. والمراد بالذّكر باللّسان أن يتحرّك به اللّسان ويسمع نفسه على الأقلّ إن كان ذا سمعٍ، ولم يكن هناك لغط يمنع السّماع. وذكر اللّسان على الوجه المبيّن يتأدّى به الذّكر المكلّف به في الصّلاة ونحوها، ولا يجزئ في ذلك مجرّد إمرار الذّكر المطلوب على القلب. قال الفقهاء: وذلك معلوم من أقواله صلى الله عليه وسلم أنّ من قال كذا فله من الأجر كذا. فلا يحصل ذلك إلاّ بما يصدق عليه القول. وقد اتّفق العلماء على أنّ الذّكر باللّسان وبالقلب جميعًا أفضل من الذّكر باللّسان وحده دون مواطأة القلب أي مع عدم إجرائه على القلب تسبيحاً كان أو تهليلاً أو غيرهما، وأفضل من إمرار الذّكر على القلب دون نطقٍ باللّسان. أمّا في حال انفراد أحد الذّكرين عن الآخر فقد اختلف أيّهما أفضل. فقيل: ذكر القلب أفضل، وإليه ذهب النّوويّ في أذكاره وابن تيميّة وابن حجرٍ الهيتميّ في شرح المشكاة، وقيل: لا ثواب في الذّكر بالقلب وحده نقله الهيتميّ عن عياضٍ والبلقينيّ، وقيل: ذكر اللّسان مع الغفلة عن المعنى يحصل به الثّواب وهو أفضل من الذّكر بالقلب وحده، لأنّ في ذكر اللّسان امتثالاً لأمر الشّرع من حيث الذّكر، لأنّ ما تعبّدنا به لا يحصل إلاّ بالتّلفّظ به بحيث يسمع نفسه، بخلاف الذّكر بالقلب وحده فلا يحصل به الامتثال. وهذا كلّه في الذّكر القلبيّ بالمعنى المبيّن، أمّا الذّكر القلبيّ بمعنى تذكّر عظمة اللّه عند أوامره ونواهيه وإرادة الفعل الّذي فيه رضاه فيفعله، أو الّذي فيه سخطه فيتركه، والتّفكّر في عظمة اللّه وجبروته وآياته في أرضه وسماواته ومصنوعاته فقال عياض: هذا النّوع لا يقاربه ذكر اللّسان، فكيف يفضله. وفي الحديث «خير الذّكر الخفيّ».
5 - الأذكار القوليّة قسمان: أذكار مأثورة، وهي ما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم تعليمها والأمر بها، أو ورد عنه قولها في مناسبةٍ خاصّةٍ أو في غير مناسبةٍ ومن قبيل الذّكر المأثور الأذكار القرآنيّة كذكر ركوب الدّابّة في قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}. 6 - الأذكار الواردة في الكتاب والسّنّة كثيرة أفردها كثير من العلماء بالتّأليف منهم النّوويّ وابن الجزريّ وغيرهما. والقرآن وإن كان كلّه ذكراً بالمعنى الأعمّ للذّكر إلاّ أنّ فيه ممّا يتعلّق بتعظيم اللّه تعالى والثّناء عليه - وهو الذّكر بالمعنى الأخصّ - الشّيء الكثير الطّيّب. وقد جمع النّوويّ في أذكاره جملاً من ذلك، وكذا الشّيخ صدّيق حسن خان في باب الدّعوات القرآنيّة من كتابه. فمن ذلك أمره تعالى لنا بالاستعاذة عند قراءة القرآن بقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}. وأمّا المأثورات عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكثيرة وسيأتي في أثناء البحث جملة منها. ثمّ المأثورات عنه صلى الله عليه وسلم منها ما ورد أنّه كان يقوله مطلقاً أو لسببٍ، ومنها ما ورد أنّه أمر به مطلقاً أو لسببٍ، فيتّبع بحسب ذلك. وفيما يلي من الأذكار المأثورات أنواع خصّت بمزيد توكيدٍ:
7 - وهو قول " لا إله إلاّ اللّه " ومعناها نفي الألوهيّة عن كلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ، وإثبات استحقاقها للّه تعالى وحده، فلا ربّ غيره ولا يعبد سواه. وتسمّى هذه الكلمة كلمة التّوحيد، فإنّها تدلّ على نفي الشّريك على الإطلاق. وتسمّى أيضًا كلمة الإخلاص. وكلمة التّوحيد خلاصة دعوة الرّسل، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} ولا يصحّ الإيمان للقادر إلاّ بالنّطق بها مع التّصديق بمعناها بالجنان، وقيل: يحصل بالتّصديق بها، وهو عاصٍ بترك اللّفظ، والجمهور على الأوّل. ومن شهد بها وبرسالة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم دخل في الإسلام حكماً (ر: إسلام)، وقد جعلت الشّهادتان جزءاً من الأذان، وهما ذكر من أذكار الصّلاة واجب، وقيل: سنّة (ر: أذان، وتشهّد). وفضل التّهليل عظيم، وورد في ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه قد حرّم على النّار من قال لا إله إلاّ اللّه يبتغي بذلك وجه اللّه»وقوله:«أفضل الذّكر لا إله إلاّ اللّه». والتّهليل مستحبّ في كلّ وقتٍ وحالٍ، وورد في السّنّة الأمر به في مواضع منها: عند دخول السّوق، لحديث: «من دخل السّوق فقال: لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حيّ لا يموت، بيده الخير وهو على كلّ شيءٍ قدير، كتب اللّه له ألف ألف حسنةٍ، ومحا عنه ألف ألف سيّئةٍ، ورفع له ألف ألف درجةٍ». ومنها إذا أصبح الإنسان وإذا أمسى، بعد صلاة الصّبح وصلاة المغرب ويأتي بيان ذلك، ومنها إذا سبق لسانه بالحلف بغير اللّه، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «من حلف فقال في حلفه واللّات والعزّى فليقل لا إله إلاّ اللّه».
8 - وهو قول " سبحان اللّه ". ومعناه أنّ القائل ينزّه اللّه تعالى تنزيهًا عن كلّ نقصٍ، ومنه نفي الشّريك والصّاحبة والولد وجميع النّقص. وقد روي في حديث موسى بن طلحة مرسلاً «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال - في قول العبد سبحان اللّه -: تنزيه اللّه من السّوء». وقد أمر اللّه تعالى بالتّسبيح مطلقاً كما في: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}. والأكثر قرن التّسبيح باسمٍ دالٍّ على التّعظيم، أو بالحمد، ووجهه أنّ التّسبيح تنزيه وتخلية فهو من باب السّلب، والحمد ثناء بصفات الكمال فهو من باب الإيجاب، ولذا قال اللّه تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} وقال {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} وقال {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ}. وفضل التّسبيح عظيم كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللّسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرّحمن: سبحان اللّه وبحمده، سبحان اللّه العظيم». وورد الأمر بالتّسبيح في القرآن {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}، و {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}. وفي السّنّة في مواضع منها دعاء الاستفتاح «سبحانك اللّهمّ وبحمدك...» إلخ. والأمر بالتّسبيح في الرّكوع " سبحان ربّي العظيم " وفي السّجود " بسبحان ربّي الأعلى " وورد الأمر بفعله بعد الصّلاة. وجعل التّسبيح لمن في الصّلاة إذا نابه أمر تنبيهاً لغيره، وأمر به وعند سماع الرّعد. وكذا إن حكى نسبة ما فيه نقص إلى اللّه تعالى وتقدّس، كما قال تعالى: {وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ} أو سمع ذلك، أو سمع ما يتعجّب منه كما في حديث {أبي هريرة أنّه كان جنبًا ورأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فانخنس، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: سبحان اللّه إنّ المؤمن لا ينجس}. وفي أكثر هذه المسائل تفصيل ينظر في مصطلح: (تسبيح).
9 - ويسمّى أيضاً الحمدلة، وهو قول: الحمد للّه، نطقاً. ومعنى كون الحمد للّه: أنّ كلّ حمدٍ، أو حقيقة الحمد، أو الحمد المعهود، أي الّذي حمد اللّه به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه، مملوك أو مستحقّ له، فحمد غيره لا اعتداد به، لأنّ كلّ النّعم منه تعالى، وفي الحديث «اللّهمّ لك الحمد كلّه». وهذا يرجّح أنّ المعنى الاستغراق وهو قول الجمهور. وحقيقة الحمد: الثّناء باللّسان على الجميل الاختياريّ على قصد التّبجيل، وبهذا فارق المدح، فإنّ المدح الثّناء باللّسان على الجميل الاختياريّ وغيره. وقيل الحمد الوصف بالجميل اختياريّاً كان أو غيره بقصد الثّناء، وهذا أصحّ. وقيل الحمد في العرف يكون بالقول وبالفعل أيضاً. ومعنى الشّكر قريب من معنى الحمد إلاّ أنّه كما قال الزّمخشريّ أعمّ مورداً، أي لأنّ الشّكر يكون باللّسان والقلب والجوارح، والحمد باللّسان فقط، والحمد أعمّ متعلّقاً، لأنّ الشّكر لا يكون إلاّ في مقابلة نعمةٍ، والحمد يكون في مقابلة نعمةٍ ويكون لمجرّد اتّصاف المحمود بالجميل. قال ابن القيّم: والتّمجيد أخصّ من التّحميد، فإنّ التّمجيد: المدح بصفات الجلال والملك والسّؤدد والكبرياء والعظمة. والذّكر بحمد اللّه وتمجيده وشكره مأمور به في الكتاب والسّنّة، وفضله كبير، قال اللّه تعالى {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} وقال {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} «وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأسود بن سريعٍ: إنّ ربّك يحبّ الحمد» وقال: «الحمد للّه تملأ الميزان». وتسنّ الحمدلة في ابتداء كلّ عملٍ ذي بالٍ، في خطبة الجمعة وخطبة النّكاح، والخطبة عند عقده، وفي التّدريس، والتّصنيف، وغير ذلك، وبعد الأكل أو الشّرب وعند العطاس، وعند الخروج من الخلاء، وفي افتتاح الدّعاء واختتامه وعند حصول النّعم أو اندفاع المكروه ويسنّ لمن أصابته مصيبة أن يقول: " الحمد للّه على كلّ حالٍ ". واستيفاؤه في مصطلح: (تحميد).
10 - وهو لغةً التّعظيم، وشرعاً قول: " اللّه أكبر ". وورد الأمر به مطلقًا في قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} وقوله {وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}، وفي السّنّة قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كلّ تكبيرةٍ صدقة». وورد الأمر به في مواضع، منها في الأذان والإقامة، ومنها تكبيرة الإحرام بالصّلاة وتكبيرات الانتقال فيها، والتّكبير في العيدين في الخطبة والصّلاة، والتّكبير في صلاة الجنازة، وعند الشّافعيّة والحنابلة يكبّر في صلاة الاستسقاء. ويسنّ التّكبير عقب الصّلاة المكتوبة، وعند تمام الصّوم حتّى يصلّي العيد، وفي يوم عيد الفطر وأيّام التّشريق، ويكبّر الحاجّ والمعتمر عند ابتداء طوافه، وعند ابتداء سعيه، وفي أثناء الوقوف بعرفة. ويكبّر الذّابح والصّائد مع التّسمية، وسنّ التّكبير عند رؤية الهلال ويسنّ للمسافر إذا علا شرفاً أو ركب دابّةً أو نحو ذلك. وتفصيل ذلك ينظر في مصطلح: (تكبير). وورد في فضله أحاديث منها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أحبّ الكلام إلى اللّه أربع فذكر منهنّ التّكبير».
11 - هي قول: " لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه ". ومعناها على ما قال ابن حجرٍ: لا تحويل للعبد عن معصية اللّه إلاّ بعصمة اللّه، ولا قوّة له على طاعة اللّه إلاّ بتوفيق اللّه، وفي الفتوحات الرّبّانيّة أنّ تفسيرها بذلك رواه البزّار عن ابن مسعودٍ مرفوعاً وفي لفظه: بعون اللّه. وقال النّوويّ: هي استسلام وتفويض، وأنّ العبد لا يملك من أمره شيئاً، وليس له حيلة في دفع شرٍّ ولا قوّة في جلب نفعٍ، إلاّ بإرادة اللّه تعالى وتوفيقه. وورد في فضلها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي موسى الأشعريّ: يا عبد اللّه بن قيسٍ، ألا أعلّمك كلمةً هي من كنوز الجنّة: لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه». وورد الأمر بقولها مطلقاً كما تقدّم. وورد الأمر بقولها في إجابة المؤذّن عند قوله: حيّ على الصّلاة، وحيّ على الفلاح. وورد في القرآن الأمر بها في قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ}. واستيفاء ذلك في مصطلح: (حوقلة).
12 - هذه الأنواع الخمسة المتقدّمة من الأذكار المأثورة ورد تسميتها " الباقيات الصّالحات " وذلك في حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: استكثروا من الباقيات الصّالحات. قيل: وما هي يا رسول اللّه ؟ قال: التّكبير والتّهليل والتّسبيح والتّحميد ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه». وفي حديث أبي الدّرداء مرفوعاً «قل سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه وهنّ يحططن الخطايا كما تحطّ الشّجرة ورقها، وهنّ من كنوز الجنّة». وفي لفظٍ «خذهنّ قبل أن يحال بينك وبينهنّ». وورد في فضل الأربع الأول منهنّ أحاديث جامعة، منها أنّهنّ «أحبّ الكلام إلى اللّه» ومنها حديث سمرة مرفوعاً «هنّ أفضل الكلام بعد القرآن، وهنّ من القرآن، لا يضرّك بأيّهنّ بدأت» وأنّهنّ «أحبّ إليه صلى الله عليه وسلم ممّا طلعت عليه الشّمس». «وأنّ اللّه اصطفى من الكلام أربعاً» فذكرهنّ. وورد الأمر بقولهنّ بعد السّلام من الصّلاة، ويأتي صيغة ذلك.
13 - هو قول " إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ". ومعنى " إنّا للّه " إقرار قائلها أنّنا نحن وأهلنا وأموالنا عبيد للّه يصنع فينا ما يشاء. ومعنى " وإنّا إليه راجعون " إقرار قائلها على نفسه بالهلاك ثمّ بالبعث والنّشور إلى انفراد اللّه تعالى بالحكم كما كان أوّل مرّةٍ. وورد الأمر بقولها عند المصيبة مطلقاً، صغيرةً كانت أو كبيرةً فإنّها تسهّل على الإنسان فقد ما فقد، قال تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وورد في السّنّة الأمر بها لمن مات له ميّت، أو بلغه وفاة صديقه، ويأتي إن شاء اللّه بيان بعض ذلك.
14 - وهي قول " بسم اللّه " أو " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ". يقال: سمّيت اللّه تعالى أي قلت بسم اللّه، ويقال أيضًا: بسملت، والمصدر البسملة. ومعناها: أبتدئ هذا الفعل أو هذا القول مستعيناً باللّه على إتمامه، أو متبرّكاً بذكر اسمه تعالى. وقد افتتح اللّه بها فاتحة كتابه وجميع سوره ما عدا سورة براءة. وورد الأمر بقولها في ابتداء الوضوء، وعند الغسل، ودخول المسجد أو الخروج منه، وعلى الذّبح، وإرسال النّصل أو الجارحة على الصّيد، وعلى الأكل أو الشّرب أو الجماع، وكذا عند دخول الخلاء. وينظر تفصيل القول في كلّ شيءٍ من ذلك في موضعه و (ر: تسمية).
15 - ورد ذكرها في قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} قال القرطبيّ: أي هذه الجنّة هي ما شاء اللّه. وقال الزّجّاج والفرّاء: تقديره: الأمر ما شاء اللّه. وفي حديث أنسٍ قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء اللّه لا قوّة إلاّ باللّه لم يضرّه العين». وقالت عائشة رضي الله عنها: «إذا خرج الرّجل من منزله فقال: بسم اللّه قال الملك: هديت، وإذا قال: ما شاء اللّه قال: كفيت، وإذا قال: لا قوّة إلاّ باللّه قال الملك: وقيت». قال أشهب: قال مالك: ينبغي لكلّ من دخل منزله أن يقول هذا. يعني ما ورد في الآية.
16 - وهي قول " صلّى اللّه على محمّدٍ وسلّم " أو نحوها ممّا يفيد سؤال اللّه تعالى أن يصلّي على رسوله ويسلّم عليه. وقد أمر اللّه تعالى المؤمنين بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «لا تجعلوا قبري عيداً، وصلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيث كنتم». ومن الصّيغ الواردة ما ورد في حديث أبي مسعودٍ الأنصاريّ «أنّ بشير بن سعدٍ قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم: أمرنا اللّه أن نصلّي عليك يا رسول اللّه، فكيف نصلّي عليك ؟ قال: قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ، كما صلّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمّدٍ وعلى آل محمّدٍ كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد». والصّلاة من اللّه تعالى على عبده ثناؤه عليه، وقيل: رحمته له، وصلاة الملائكة والعباد عليه دعاء بالرّحمة مقرون بالتّعظيم. وتفصيل ذلك في مصطلح: (الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم).
17 - وهي قول " لبّيك اللّهمّ لبّيك " وهي من أذكار الحجّ والعمرة، ومعناها: أقيم على إجابتك يا ربّ إقامةً بعد إقامةٍ. وينظر تفصيل أحكامها في مباحث الحجّ والعمرة.
18 - وهي قول " حسبي اللّه " ومعناه الاكتفاء بدفاع اللّه وعونه عن دفاع غيره وعونه. ويسنّ قولها لمن غلبه أمر، لما في حديث عوف بن مالكٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضيّ عليه لمّا أدبر: حسبي اللّه ونعم الوكيل. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ اللّه تعالى يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل حسبي اللّه ونعم الوكيل».
19 - وهناك أذكار أخرى مأثورة مرتبطة بأسبابٍ أو مطلقة يأتي بيان بعضها في البحث. وقد جمعها كثير من العلماء كابن السّنّيّ في " عمل اليوم واللّيلة " والنّوويّ في " الأذكار " وابن القيّم في " الوابل الصّيّب من الكلم الطّيّب " وصدّيق حسن خان في " نزل الأبرار ". ويعرض لها الفقهاء في مواضع مختلفةٍ من مباحث الفقه.
20 - قال النّوويّ: القرآن أفضل الذّكر. قال القرطبيّ: لأنّه مشتمل على جميع الذّكر من تذكيرٍ وتهليلٍ وتحميدٍ وتسبيحٍ وتمجيدٍ وعلى الخوف والرّجاء والدّعاء والسّؤال والأمر بالتّفكّر والاعتبار وغير ذلك، فمن وقف على ذلك وتدبّره فقد حصّل أفضل العبادات، وهو قبل ذلك كلام اللّه فلا يدانيه شيء. ثمّ ذكر في أفضليّته قيداً فقال: أفضل الذّكر القرآن لمن عمل به، ونقل ذلك عن سفيان الثّوريّ. وفي الحديث القدسيّ: «من شغله القرآن عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين، وفضل كلام اللّه على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه». واستدلّ ابن تيميّة لكون القرآن أفضل من سائر الذّكر بتعيّنه في الصّلاة، وبأنّه لا يقربه جنب، ولا يمسّه إلاّ الطّاهر، بخلاف الذّكر والدّعاء. ولا تختلف الأحاديث في أنّ أفضل الأذكار بعد القرآن الكلمات الأربع «سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر». ورد ذلك من حديث سمرة بن جندبٍ، وفي حديثٍ أبي هريرة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لأن أقولهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشّمس». وورد «أنّ اللّه اصطفى من الكلام أربعاً». فذكرهنّ. وهذا يدلّ على أنّ الذّكر بهنّ أفضل منه بغيرهنّ ممّا في القرآن، وهنّ كذلك أفضل من سائر الأذكار المأثورة، فعن سمرة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: هنّ أفضل الكلام بعد القرآن، وهنّ من القرآن، لا يضرّك بأيّهنّ بدأت». أمّا الأفضل من هذه الكلمات الأربع فهو كلمة " لا إله إلاّ اللّه " صرّح بذلك القرطبيّ والطّيبيّ، واستظهره ابن حجرٍ، لما في الحديث: «أفضل الدّعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنّبيّون من قبلي لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له». والحديث الآخر القدسيّ «لو أنّ السّموات والأرض وعامرهنّ غيري في كفّةٍ ولا إله إلاّ اللّه في كفّةٍ مالت بهنّ لا إله إلاّ اللّه» والحديث الآخر «أفضل الذّكر لا إله إلاّ اللّه» وفي حديثٍ «هي أفضل الحسنات» ولأنّها مفتاح الإسلام وبابه الّذي لا يدخل إليه إلاّ منه، وعموده الّذي لا يقوم بغيره، وهي أحد أركان الإسلام. قال ابن حجرٍ: ويعارض ذلك في الظّاهر حديث أبي ذرٍّ المرفوع: «أنّ أحبّ الكلام إلى اللّه سبحان اللّه وبحمده» وجمع بين ذلك بأوجهٍ منها: أنّ أفضليّة سبحان اللّه وبحمده لدخول معاني الكلمات الأربع تحتها إمّا بالتّصريح أو بالاستلزام فقد صرّحت بالتّنزيه والتّحميد، وإذا كان معناها تنزيهه تعالى عمّا لا يليق بجلاله اندرج فيه معنى لا إله إلاّ اللّه، وإذا كان كلّ فضلٍ وإفضالٍ منه تعالى فلا شيء أكبر منه، وأمّا أفضليّة لا إله إلاّ اللّه فلذكر الوحدانيّة صريحاً. وينبغي أن يعلم أنّ الذّكر أفضل من الدّعاء من حيث الجملة، لحديث «من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السّائلين».
21 - ما تقدّم هو الأفضليّة في الذّكر المطلق: أفضله الاشتغال بقراءة القرآن، فهي أفضل من الاشتغال بالتّهليل والتّسبيح المطلق. ثمّ الكلمات الأربع، ثمّ سائر أنواع الذّكر، قال النّوويّ: أمّا المأثور في وقتٍ أو نحوه - أي لسببٍ - فالاشتغال به - أي في الوقت أو عند السّبب - أفضل. ا هـ. وهذا يقتضي أنّ الاشتغال بالذّكر المؤقّت في وقته، والمقيّد بسببٍ عند سببه، أفضل من الاشتغال بسائر المأثورات، حتّى من التّسبيح والتّكبير ونحوهما وحتّى من الاشتغال بقراءة القرآن. قال ابن علّان: ما ورد من الذّكر مختصّاً بمكانٍ أو زمانٍ أو حالٍ كأذكار الطّواف وليلة الجمعة وحال النّوم فالاشتغال به أفضل من الاشتغال بالتّلاوة. قال عمر بن أبي سلمة: سألت الأوزاعيّ: قراءة القرآن أعجب إليك أم الذّكر ؟ فقال: سل أبا محمّدٍ، يعني سعيداً، أي ابن المسيّب، فسألته فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعيّ: إنّه ليس شيء يعدل القرآن، ولكن إنّما كان هدي من سلف يذكرون اللّه تعالى قبل طلوع الشّمس وقبل الغروب. قال الشّوكانيّ: وهكذا ما وردت به السّنّة من الأذكار في الأوقات وعقيب الصّلوات فإنّه ينبغي الاشتغال بما ورد عنه صلى الله عليه وسلم فإنّ إرشاده إليه يدلّ على أنّه أفضل من غيره. وصرّح بمثل ذلك العزّ بن عبد السّلام في قواعده وابن تيميّة في فتاويه. وفي مطالب أولي النّهى القرآن أفضل من سائر الذّكر لكن الاشتغال بالمأثور من الذّكر في محلّه كأدبار الصّلوات، أفضل من تلاوة القرآن في ذلك المحلّ. وعلى هذا فالأفضل عند الأذان الاشتغال بإجابته، وبعد الصّلاة بالأذكار الواردة، وعند الإفطار في رمضان الاشتغال بما ورد من الذّكر، وهكذا.
أ - في الأذكار المطلقة: 22 - يجوز في الأذكار المطلقة الإتيان بما هو صحيح في نفسه ممّا يتضمّن الثّناء على اللّه تعالى ولا يستلزم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، وإن لم تكن تلك الصّيغة مأثورةً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا في الذّكر المطلق موضع اتّفاقٍ. ولا يدخل في المأثور في هذا الباب ما نقل عن الصّحابة رضي الله عنهم، على ما قاله ابن علّان من الشّافعيّة، قال: لأنّ ما ورد عن الصّحابيّ ممّا للرّأي فيه مدخل لا يكون له حكم المرفوع. فيكون ما ورد من أذكار الصّحابة رضي الله عنهم مضموماً إلى ما نقل من الأذكار عن غيرهم في كونه من غير المأثور، وإن كان فيما نقل عنهم الكثير الطّيّب ممّا يحسن تعلّمه واستعماله. والمشهور أنّ الاشتغال بالذّكر المأثور أفضل من الاشتغال بذكرٍ يخترعه الإنسان من عند نفسه. ووجه الأفضليّة واضح وهو ما فيه من الاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم وكونه أعلم باللّه تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله، وكونه أفصح العرب وأعلمهم بمواقع الكلام، وكونه أوتي جوامع الكلم، وأمدّ بالتّسديد الرّبّانيّ، وكمال النّصح لأمّته. وقال النّوويّ: الخير والفضل إنّما هو في اتّباع المأثور في الكتاب والسّنّة وفيهما ما يكفي في سائر الأوقات، وجرى على ذلك أصحابنا. وقال في موضعٍ: أوراد المشايخ وأحزابهم لا بأس بالاشتغال بها. ونقل ابن عابدين عن الهنديّة أنّه ينبغي أن يدعو في صلاته بدعاءٍ محفوظٍ، وأمّا في غيرها فينبغي أن يدعو بما يحضره. ب - الذّكر بغير المأثور في مناسباتٍ معيّنةٍ: 23 - ما تقدّم هو في الذّكر المطلق، أمّا في الأسباب والمناسبات المعيّنة: أ - فإن كان في مثل تلك المناسبة ذكر مأثور فإنّ التّكليف يتأدّى به. فلو أتى بدله بذكرٍ غير مأثورٍ ففي المسألة تفصيل: فما كان ركناً من أركان العبادة أو واجباً من واجباتها لم يمكن إبداله، وذلك كأذكار الأذان، وأذكار الصّلاة الّتي لا بدّ منها كالفاتحة، وتكبيرة الإحرام، والتّشهّد. وما كان الإتيان به من الأذكار المأثورة مستحبّاً أو جائزاً ففي إبداله بغيره تفصيل: فالأصل أنّ الإتيان بالذّكر المأثور أفضل، وإن دعا وذكر بغيره ممّا يليق فلا بأس. فمن جملة ذلك الطّواف، قال النّوويّ: قال أصحابنا: القراءة في الطّواف أفضل من الدّعوات غير المأثورة وأمّا المأثورة فهي أفضل من القراءة على الصّحيح. ب - أمّا إن لم يكن في المناسبة المعيّنة ذكر وارد، فذهب بعض العلماء إلى أنّه لا ينكر استعمال ذكرٍ ممّا يحبّ الإنسان ممّا يليق بالمناسبة، أخذاً من إطلاق الأمر بالذّكر والدّعاء في النّصوص القرآنيّة والنّبويّة. دون أن يُدَّعى لذلك الذّكر أو الدّعاء فضل أو خصوصيّة معيّنة. ومن جملة ذلك التّهنئة بالعيد وبدخول الأعوام والأشهر، قال صاحب الدّرّ: التّهنئة بالعيد بلفظ تقبّل اللّه منّا ومنكم لا تنكر. قال ابن عابدين: إنّما قال ذلك لأنّه لم يحفظ فيه شيء عن أبي حنيفة وأصحابه. قال: وفي القنية أنّه لم ينقل فيها عن أصحابنا كراهة. قال ابن عابدين: يمكن أن يلحق بذلك قوله: عيد مبارك ونحوه. ثمّ قال: على أنّه قد ورد الدّعاء بالبركة في أمورٍ شتّى فيؤخذ منه استحباب الدّعاء بهذا أيضاً. وعن الحافظ المقدسيّ: أنّ النّاس لم يزالوا مختلفين فيه والّذي أراه أنّه لا سنّة فيه ولا بدعة. ا هـ. وفي المغني: عن أحمد أنّه قال: لا أبتدئ به أحدًا وإن قاله أحد رددت عليه. وعن مالكٍ في مثل " تقبّل اللّه منّا ومنك، وغفر لنا ولك " يوم العيد: قال: لا أعرفه ولا أنكره. قال ابن حبيبٍ: أي: لا يعرفه سنّةً ولا ينكره على من يقوله لأنّه قول حسن، لأنّه دعاء. قال صاحب الفواكه: ومثله قول النّاس بعضهم لبعضٍ في اليوم المذكور " عيد مبارك، وأحياكم اللّه لأمثاله " لا شكّ في جواز كلّ ذلك. وقال الأوزاعيّ: هو بدعة. وعند الشّافعيّة أنّها سنّة. وانظر بحث (تهنئة من الموسوعة 14 /99).
24 - الزّيادة في الذّكر المرتّب شرعاً على سببٍ، الأصل فيه الجواز عند الجمهور، ويتقيّد بقيودٍ تفهم ممّا تقدّم، فمنها أن يكون صحيح المعنى لا يستلزم نقصًا بوجهٍ من الوجوه، وألاّ يكون ممّا علم أنّ الشّارع أراد المحافظة فيه على اللّفظ الوارد، فلا يزاد على ألفاظ الأذان وألفاظ التّشهّد ونحوهما، وأن يكون بمعنى ما ورد، وأن يكون ممّا يليق. وقد نقل ابن علّان أنّ زيادات العلماء في القنوت ونحوه من الأذكار يكون الإتيان بها أولى، وفارق التّشهّد وغيره بأنّ العلماء فهموا أنّ المدار فيه على لفظه فلذا لم يزيدوا فيه، ورأوا أنّ الزّيادة فيه خلاف الأولى بخلاف القنوت فإنّهم فهموا أنّ للدّعاء تأثيراً عظيماً في الاستجابة فتوسّعوا في الدّعاء فيه. وقد ورد أنّ ابن عمر رضي الله عنه كان يلبّي في الحجّ «بتلبية النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك لا يزيد على ذلك» ثمّ كان ابن عمر يزيد فيها " لبّيك لبّيك وسعديك والخير بيديك لبّيك، والرّغباء إليك والعمل وفي روايةٍ: قال ابن عمر: كان عمر يهلّ بهذا «أي بتلبية النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويزيد: لبّيك وسعديك إلخ». قال ابن حجرٍ: قال الطّحاويّ: قال قوم: لا بأس أن يزيد في التّلبية ما أحبّ من الذّكر للّه، وهو قول محمّدٍ والثّوريّ والأوزاعيّ. واحتجّوا بهذا المرويّ عن عمر وابنه. وقال آخرون: لا ينبغي أن يزاد على ما علّمه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم النّاس، كما علّمهم التّكبير في الصّلاة فلا ينبغي أن يتعدّى في ذلك شيئًا ممّا علمه. ا هـ. ثمّ قال ابن حجرٍ: وقول من قال: إنّه لا بأس بالزّيادة على التّلبية هو قول الجمهور وبه صرّح أشهب. وحكى ابن عبد البرّ عن مالكٍ الكراهة. قال: وهو أحد قولي الشّافعيّ. وقال الشّيخ أبو حامدٍ: وحكى أهل العراق عن الشّافعيّ في القديم أنّه كره الزّيادة على المرفوع، وغلطوا، بل لا يكره ولا يستحبّ. وحكى التّرمذيّ عنه إن زاد في التّلبية شيئاً من تعظيم اللّه فلا بأس وأحبّ إليّ أن يقتصر على تلبية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وحكي عن أبي حنيفة: إن زاد في التّلبية عمّا ورد فحسن. وحكي في المعرفة عن الشّافعيّ أيضاً قوله: " لا ضيق على أحدٍ في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم اللّه ودعائه، غير أنّ الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك ". قال ابن حجرٍ: وهذا أعدل الوجوه، فيفرد ما جاء مرفوعاً، وإذا اختار قول ما جاء موقوفاً، أو أنشأه هو من قبل نفسه ممّا يليق، قاله على انفراده حتّى لا يختلط بالمرفوع. قال: وهو شبيه بحال الدّعاء في التّشهّد فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال فيه: «ثمّ ليتخيّر بعد من المسألة ما شاء». أي بعد أن يفرغ من المرفوع. وذكر البخاريّ حديث رفاعة الزّرقيّ قال: «كنّا يوماً نصلّي وراء النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلمّا رفع رأسه من الرّكعة قال: سمع اللّه لمن حمده، قال رجل وراءه، ربّنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، فلمّا انصرف قال: من المتكلّم ؟ قال: أنا. قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيّهم يكتبها أوّل»، ثمّ قال ابن حجرٍ: استدلّ بهذا على إحداث ذكرٍ في الصّلاة غير مأثورٍ إذا كان غير مخالفٍ للمأثور. قال عليّ القاريّ: وروى التّرمذيّ عن ابن عمر: " أنّ رجلاً عطس إلى جنبه فقال: الحمد للّه والسّلام على رسول اللّه. فقال ابن عمر. وإنّا أقول: الحمد للّه والسّلام على رسول اللّه وليس هكذا علّمنا رسول اللّه ". ثمّ بيّن القاريّ وجه إنكار ابن عمر لتلك الزّيادة قائلاً: الزّيادة المطلوبة هي المتعلّقة بالحمد له سواء ورد أم لا، وأمّا زيادة ذكرٍ آخر بطريق الضّمّ إليه فغير مستحسنٍ، لأنّ من سمع ربّما يتوهّم أنّه من جملة المأثور به.
25 - تبديل لفظٍ من الأذكار الواردة بلفظٍ آخر اختلف فيه أيضاً، فقيل: هو جائز لأنّه شبيه بالرّواية بالمعنى، والمشهور عند المحدّثين أنّ الرّواية بالمعنى جائزة إذا كان اللّفظ البديل مساوياً في المعنى للّفظ الوارد، وخالف في ذلك المازريّ فقال تعليقاً على حديث البراء بن عازبٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: إذا أتيت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن. ثمّ قل: اللّهمّ أسلمت نفسي إليك.. إلى قوله: آمنت بكتابك الّذي أنزلت ونبيّك الّذي أرسلت... قال فرددتها على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقلت: ورسولك قال: لا، ونبيّك الّذي أرسلت». قال المازريّ عقبه: سبب هذا الإنكار أنّ هذا ذكر ودعاء، فينبغي فيه الاقتصار على الذّكر الوارد بحروفه، وقد يتعلّق الجزاء بتلك الحروف، ولعلّه أوحي إليه بتلك الكلمات، فتعيّن أداؤها بحروفها. وإلى مثل ذلك مال ابن حجرٍ. وهذا كما هو واضح في الأذكار المقيّدة الّتي رتّب الشّارع عليها فضلاً خاصّاً، لا في الذّكر المطلق.
26 - ذكر الرّشيديّ في حاشيته على النّهاية ما يدلّ على أنّ في الذّكر بالاسم المفرد " اللّه، اللّه، اللّه " خلافاً في أنّه ذكر أم لا. وقال ابن تيميّة: الاسم المفرد مظهراً أو مضمراً ليس بكلامٍ تامٍّ ولا يتعلّق به إيمان ولا كفر، ولا أمر، ولا نهي، ولا يعطي القلب معرفةً مفيدةً، وإنّما يعطيه تصوّراً مطلقاً. والذّكر بالاسم المضمر أبعد عن السّنّة.
للذّكر والدّعاء آداب يستدعيها كمال المذكور وجلاله، وإذا روعيت كانت أولى بالقبول والإجابة، فمن تلك الآداب: أ - طلب العون من اللّه تعالى على الذّكر: 27 - وقد «حثّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم معاذاً على أن يقول: اللّهمّ أعنّي على ذكرك وحسن عبادتك». ب - أن يكون الذّاكر متطهّراً من الحدث: 28 - واستدلّ لذلك بحديث المهاجر بن قنفذٍ قال: «رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلّمت عليه فلم يردّ عليّ حتّى توضّأ، ثمّ اعتذر إليّ وقال: إنّي كرهت أن أذكر اللّه إلاّ على طهرٍ، أو قال: على طهارةٍ». وقال ابن علّان: يؤخذ من الحديث أنّ الأفضل ألاّ توجد الأذكار إلاّ في أكمل الأحوال، كالطّهارة من الحدثين، وطهارة الفم من الخبث. ولم يقولوا باشتراط ذلك لما ثبت «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم: كان يذكر اللّه على كلّ أحيانه. وكان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك، وكان يقول: الحمد للّه الّذي أذهب عنّي الأذى وعافاني». فهذا ذكر على غير طهارةٍ. وقد أجمعوا على جواز الذّكر بالقلب واللّسان للمحدث والجنب والحائض والنّفساء. ومذهب الحنفيّة على ما في الهداية وشروحها أنّ الذّاكر يستحبّ له أن يكون متوضّئاً. ومن ذلك الأذان والإقامة، فإن أذّن بلا وضوءٍ جاز بلا كراهةٍ في ظاهر الرّواية كسائر أنواع الذّكر، وإن أقام بلا وضوءٍ جاز مع الكراهة لما فيه من الفصل بين الإقامة والصّلاة بالاشتغال بأعمال الوضوء، والإقامة شرعت متّصلةً. ويفهم من كلام الحنفيّة أنّ استحباب التّطهّر للذّكر إنّما هو في أحوالٍ خاصّةٍ كخطبة الجمعة والأذان، وفي الدّرّ المختار: الوضوء لمطلق الذّكر مندوب ولو للجنب، وتركه خلاف الأولى. وقال النّوويّ: إن كان في فمه نجاسة أزالها بالماء، فلو ذكر ولم يغسلها فهو مكروه ولا يحرم، ولو قرأ القرآن وفمه نجس كره، وفي تحريمه وجهان لأصحابنا أصحّهما لا يحرم. وقال الشّوكانيّ: تنظيف الفم عند الذّكر بالسّواك أدب حسن، لأنّه المحلّ الّذي يكون الذّكر به في الصّلاة، وقد صحّ: «أنّه صلى الله عليه وسلم لمّا سلّم عليه بعض الصّحابة تيمّم من جدار الحائط ثمّ ردّ عليه»، فهذا في مجرّد ردّ السّلام فذكر اللّه سبحانه أولى. ويستثنى من الأحكام المتقدّمة القرآن، فتحرم قراءته على الحائض والنّفساء والجنب، لحديث: «لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن». وتفصيل ذلك في (قرآن، جنابة، وحيض). فإن قرأ شيئاً من الأذكار الّتي توافق القرآن من وجب عليه الغسل، وكان ينوي بها الذّكر لا القرآن، فلا بأس، وذلك كالبسملة، والحمد للّه ربّ العالمين، ولا إله إلاّ اللّه، وكآيتي الرّكوب {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا...} وآية النّزول: {رَّبِّ أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا...} وآية الاسترجاع {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. وقيل: يحرم على من عليه غسل قراءة آيةٍ ولو بقصد ذكرٍ، سدّاً للباب، ذكره صاحب مطالب أولي النّهى.
29 - يكره لمن هو في الخلاء لحاجته أن يذكر اللّه تعالى، أو أن يتكلّم، صرّح به من الشّافعيّة النّوويّ وغيره، وهو مذهب الحنابلة. وقال ابن كجٍّ: إنّه يحرم الذّكر في تلك الحال، وإليه مال الأذرعيّ والزّركشيّ. ونقلت إجازة الذّكر في المرحاض عن عبد اللّه بن عمرٍو رضي الله عنهما، وعن النّخعيّ. وصرّح النّوويّ في المجموع بأنّه إذا عطس في الخلاء فلا يحمد اللّه بلسانه بل بقلبه وقال في الأذكار: وصرّح بعض أصحابنا بأنّه لا يشمّت عاطساً ولا يردّ السّلام ولا يجيب المؤذّن. وكذا في حال الجماع. وانظر مصطلح: (قضاء الحاجة). ج - التّحرّي في الأمكنة: 30 - يجتنب الذّكر في المواضع القذرة وموضع التّخلّي كما تقدّم. ومن الأدب أن يكون موضعه نظيفاً خالياً عمّا يشغل البال. أمّا الحمّام فقد صرّح الشّافعيّة والحنابلة بأنّه لا يكره ذكر اللّه تعالى فيه، أو على سطحه ونحوه من كلّ ما يتبعه في بيعٍ أو إجارةٍ، لما روى النّخعيّ أنّ أبا هريرة دخل الحمّام فقال: لا إله إلاّ اللّه. ولا يكره ذكر اللّه في الطّريق، وفي الحديث «ما سلك رجل طريقاً لم يذكر اللّه عزّ وجلّ فيه إلاّ كان عليه ترة». والأصل في جميع المواضع أنّ ذكر اللّه تعالى فيها مندوب إليه ما لم يكن في الموضع سبب من أسباب الكراهة. لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. د - تحرّي الأمكنة الفاضلة: 31 - كالمساجد لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيها: «إنّما هي لذكر اللّه والصّلاة وقراءة القرآن». ومنها المشاعر المعظّمة، كما قال اللّه تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}. هـ - تحرّي الأزمنة الفاضلة: 32 - وذلك كالغدوّ والآصال، وأطراف اللّيل والنّهار، لما ورد من الأمر بذلك في كتاب اللّه تعالى كقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. وقوله {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}. وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}. قيل وإنّما خصّ من النّهار البكرة والعشيّ، لأنّ الشّغل فيهما غالب على النّاس. قال النّوويّ: أشرف أوقات الذّكر في النّهار الذّكر بعد صلاة الصّبح، قال ابن علّان: إنّما فضّل الذّكر ذلك الوقت لكونه تشهده الملائكة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} وفي الحديث المرفوع «من صلّى الغداة في جماعةٍ ثمّ قعد يذكر اللّه تعالى حتّى تطلع الشّمس ثمّ صلّى ركعتين كانت له كأجر حجّةٍ وعمرةٍ تامّةٍ تامّةٍ تامّةٍ» ومن هنا كره مالك الكلام بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشّمس لأجل الانشغال بالذّكر ويكره النّوم عندهم حينئذٍ. ومن أفضل مواسم الذّكر عشر ذي الحجّة. قال النّوويّ: يستحبّ الإكثار من الذّكر فيها زيادةً على غيرها، ويستحبّ من ذلك يوم عرفة ما لا يستحبّ في غيره. لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}. والأصل أنّ ذكر اللّه تعالى مستحبّ في كلّ وقتٍ، ولا يستثنى من ذلك أوقات النّهي، بل قد نقل عن الغزاليّ في الإحياء وغيره أنّ من قال: سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلاّ اللّه واللّه أكبر أربع مرّاتٍ قامت مقام تحيّة المسجد، فينبغي استعماله في أوقات النّهي لمكان الخلاف، واستحسنه الحطّاب. و - الدّعاء بعد الأعمال الصّالحة: 33 - ومن ذلك قوله تعالى في شأن صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله في صلاة الخوف: {فإذا قضيتم الصّلاة فاذكروا اللّه قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم} وقوله في الانتهاء من مناسك الحجّ: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}. وقال النّوويّ: أجمع العلماء على استحباب الذّكر بعد الصّلاة، وجاءت فيه أحاديث كثيرة صحيحة في أنواعٍ منه متعدّدةٍ، وفي الصّحيحين عن ابن عبّاسٍ «أنّ رفع الصّوت بالذّكر حين ينصرف النّاس من المكتوبة كان على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم». ز - تجنّب الذّكر في أحوالٍ معيّنةٍ: 34 - ونذكر منها ما يلي: أ - حال قضاء الحاجة كما تقدّم. ب - حال الجماع. قال ابن علّان: الذّكر عند نفس قضاء الحاجة أو الجماع لا يكره بالقلب بالإجماع. وأمّا الذّكر باللّسان حينئذٍ فليس ممّا شرع لنا ولا ندبنا إليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا نقل عن أحدٍ من الصّحابة، بل يكفي في هذه الحال الحياء والمراقبة. أمّا عند إرادة قضاء الحاجة أو الجماع فهناك أذكار مأثورة معروفة. ج - حال خطبة الجمعة لمن يسمع صوت الخطيب، لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولأنّ الإنصات إلى الخطبة واجب عند الجمهور. ومثاله التّسبيح والتّهليل. لكن إن كان لا يسمع لبعده أو لغير ذلك من الأسباب فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه يجوز له من الكلام أن يذكر اللّه من غير أن يرفع صوته، قال أحمد: لا بأس أن يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين نفسه. قال ابن قدامة: ورخّص له في القراءة والذّكر عطاء وسعيد والنّخعيّ والشّافعيّ. واحتجّ لهذا بما روى عبد اللّه بن عمرٍو عن «النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحضر الجمعة ثلاثة نفرٍ: رجل حضرها يلغو، وهو حظّه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا اللّه إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصاتٍ وسكوتٍ... الحديث». وإن كان للذّكر سبب كتشميت العاطس وردّ السّلام فقد اختلف فيه الفقهاء فذهب الثّوريّ وأحمد في روايةٍ عنه - وإسحاق إلى أنّه يفعله وإن كان يسمع الخطبة لكونه واجباً كتحذير ضريرٍ، وذهب أحمد في الرّواية الأخرى إلى أنّه لا يردّ سلاماً ولا يشمّت عاطساً إن كان يسمع الخطبة، ويفعله إذا لم يسمع، وكالتّأمين على دعاء الخطيب والصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم والتّعوّذ عند ذكر ما يستدعيه صرّح المالكيّة بجوازه على اختلافٍ في أنّه يسرّه أو يجهر به. وفي المدوّنة: من عطس والإمام يخطب حمد اللّه سرّاً. ومذهب الشّافعيّة أنّ محلّ التّحريم للذّكر أثناء الخطبة هو في حالة كون الخطيب في ذكر أركان الخطبة دون ما عداها، فلا يحرم قبلها ولا بينها ولا بعدها ولا يكره. ح - استقبال القبلة في مجلس الذّكر: 35 - من آداب الذّكر استقبال الذّاكر القبلة. قال الشّوكانيّ: وجه ذلك أنّها الجهة الّتي يتوجّه إليها العابدون للّه سبحانه وتعالى والدّاعون له والمتقرّبون إليه. وروى الطّبرانيّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ لكلّ شيءٍ سيّداً وإنّ سيّد المجالس قبالة القبلة». ومن ذلك «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا أراد أن يدعو في الاستسقاء استقبل القبلة». ط - الرّغبة والخشوع والتّدبّر: 36 - من آداب الذّكر أن يجلس الذّاكر متذلّلاً متخشّعاً بسكينةٍ ووقارٍ. قال النّوويّ: ولو ذكر على غير هذه الأحوال جاز ولا كراهة، ويكون تاركاً للأفضل. ا هـ. قال ابن علّان: قوله متخشّعاً أي ذا خشوعٍ في الباطن ولو بتكلّفه، وقيل الخشوع في الجوارح والخضوع في القلب. وممّا يرشد إلى ذلك قوله تبارك وتعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً} وقال ابن كثيرٍ: أي اذكر اللّه في نفسك رغبةً ورهبةً وبالقول. وقال أبو حيّان: أي يذكره بالقول الخفيّ الّذي يشعر بالتّذلّل والخضوع كما يناجي الملوك. وينبغي أن يكون الذّاكر متدبّراً متعقّلاً لما يذكر به من التّسبيح والتّهليل وذكر أسماء اللّه تعالى وصفاته، وإن جهل شيئاً ممّا يذكر به ينبغي أن يتبيّنه ولا يحرص على تحصيل الكثرة بالعجلة فإنّه يؤدّي إلى أداء الذّكر مع الغفلة وهو خلاف المطلوب، وقليل الذّكر مع حضور القلب خير من الكثير منه مع الجهل والفتور. وقال الشّوكانيّ: التّدبّر للذّكر أكمل لأنّ الذّاكر يكون في حكم المخاطب والمناجي. ثمّ قال: ويكون أجره أتمّ وأوفى، ولا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من الأذكار لمن جاء بها وإن لم يتدبّر معناها، لأنّه لم يرد تقييد ما وعد به من ثوابها بالتّدبّر والفهم. ووافقه الشّيخ صدّيق حسن خان. أمّا ابن علّان فقال: نصّ العلماء على أنّه لا بدّ من فهم معنى التّهليلة، وإلاّ لم ينتفع بها صاحبها في الإنقاذ من الخلود في النّار، قال: ومثلها باقي الأذكار لا بدّ في حصول ثوابه من معرفته ولو بوجهٍ. ي - الحرص على الذّكر في العزلة والانفراد عن النّاس: 37 - الذّكر في حال العزلة عن النّاس والانفراد عنهم وحيث لا يعلم به إلاّ اللّه تعالى أفضل من الذّكر في الملأ، ولكلٍّ من الحالين فضله، لقوله تعالى في الحديث القدسيّ: «أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم». قال ابن حجرٍ: " قال بعض أهل العلم: يستفاد منه أنّ الذّكر الخفيّ أفضل من الذّكر الجهريّ، والتّقدير: إن ذكرني في نفسه ذكرته بثوابٍ لا أطلع عليه أحداً. وفي الحديث: «سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه فذكر منهم: ورجل ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه»، وفي روايةٍ: «ذكر اللّه في خلاءٍ» قال ابن حجرٍ: أي لأنّه أبعد عن الرّياء ". وسيأتي حكم الاجتماع على الذّكر (ف /40).
38 - لا يعتدّ بشيءٍ ممّا رتّب الشّارع الأجر على الإتيان به من الأذكار الواجبة أو المستحبّة في الصّلاة وغيرها حتّى يتلفّظ به الذّاكر ويسمع نفسه إذا كان صحيح السّمع، وذلك لأنّ قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبةٍ بأنّ من قال كذا كان له من الأجر كذا لا يحصل له ذلك الأجر إلاّ بما يصدق عليه معنى القول، وهو لا يكون إلاّ بالتّلفّظ باللّسان. ولا يحصل ذلك عند الجمهور بمجرّد تحريك اللّسان بغير صوتٍ أصلاً بل لا بدّ من صوتٍ، وأقلّه أن يسمع نفسه.وفي الحديث القدسيّ «أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحرّكت شفتاه». وقال الشّوكانيّ: لم يرد ما يدلّ على اشتراط أن يسمع نفسه بل يصدق عليه أنّه قول بمجرّد التّلفّظ وهو تحريك اللّسان وإن لم يسمع نفسه. ومع هذا فالإسرار بالذّكر بالقلب بدون تلفّظٍ ولا تحريكٍ للّسان بل بإمرار الكلام الّذي يذكر به على القلب من تسبيحٍ وتحميدٍ وتهليلٍ وغير ذلك كلّه جائز ويؤجر عليه فاعله لقول اللّه تعالى في الحديث القدسيّ «وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي». وهذا النّوع من الذّكر جائز حيث يمتنع الذّكر اللّسانيّ، كحال قضاء الحاجة والجماع وعند خطبة الجمعة. ومن ذلك إمرار القرآن على القلب للجنب أو الحائض، قال ابن علّان: ومن ذلك الهمس به من غير أن يسمع نفسه لأنّها ليست بقراءةٍ فلا يشملها النّهي.
39 - ينبغي أن يراعى مقدار رفع الصّوت المأذون به في الذّكر، فالأصل أنّ الذّاكر يناجي ربّه، واللّه تعالى قد وسع سمعه الأصوات، فينبغي أن لا يجهر بالذّكر فوق ما يسمع نفسه ; لأنّ ذلك أقرب للخشوع وأبعد من الرّياء، وقد قال اللّه تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قال بعض المفسّرين: أي المعتدين برفع أصواتهم في الدّعاء. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «اربعوا على أنفسكم إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنّ الّذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». قال في نزل الأبرار: الطّريقة المثلى في هذا الباب أن يجهر في الموضع الّذي ورد فيه الجهر، ويسرّ في الموضع الّذي ورد فيه الإسرار، وهذه المواضع مبيّنة في علم الحديث، والموضع الّذي لم يرد فيه الدّليل على الجهر أو السّرّ فالذّاكر فيه بالخيار، ولكن لا بدّ للذّاكر فيه من ملاحظة قوله تعالى: {وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} لئلاّ يتجاوز الحدود المضروبة له ولذلك صرّح الحنفيّة بكراهة رفع الصّوت بالذّكر مع الجنازة. وقد اضطرب كلام الحنفيّة في هذا الأصل، فنقل عن القاضي أنّ الجهر بالذّكر في غير المواضع الّتي ورد فيها حرام لما صحّ عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنّه أخرج جماعةً من المسجد يهلّلون ويصلّون على النّبيّ صلى الله عليه وسلم جهراً، وقال لهم: ما أراكم إلاّ مبتدعين. وقال في الفتاوى الخيريّة: إنّ ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فالإسرار أفضل حيث خيف الرّياء أو تأذّي المصلّين أو النّيام، والجهر أفضل حيث خلا ممّا ذكر. ويستثنى من هذا الأصل مواضع ينبغي فيها الجهر بالذّكر ورفع الصّوت به، لما في ذلك من المصالح الّتي قدّرها الشّرع في ذلك، فمنها: أ - ما قصد به الإسماع والتّبليغ، كالأذان والإقامة وتكبيرات الإمام وقراءته في الجهريّة وتكبيرات المبلّغ وإلقاء السّلام وجوابه. ونحو ذلك فيجهر في ذلك بالقدر الّذي يحصل به المقصود. وتفصيل ذلك في مصطلحي: (إسرار، جهر). ب - بعض أنواع أذكار الصّلاة وردت السّنّة فيها بالجهر كالبسملة، والتّأمين، والقنوت، والتّكبير، والتّسبيح، والتّحميد بعد الصّلاة، وتكبيرات العيد، والتّلبية في الحجّ وفي بعض ذلك خلاف يرجع إليه في مواضعه، وفي مصطلحي: (إسرار، وجهر). ج - بعض الأذكار الّتي يراد بها التّنبيه أو التّعليم، أو فائدة أخرى كأن يرفع صوته بالتّسمية على الطّعام حتّى ينبّه غيره، أو بالقراءة في صلاة اللّيل ليسمع أهله. قال المالكيّة:ورفع صوت مرابطٍ وحارس بحرٍ بالتّكبير في حرسهم لأنّه شعارهم ليلاً ونهاراً.
40 - أورد صاحب نزل الأبرار الحديث المرفوع «لا يقعد قوم يذكرون اللّه إلاّ حفّتهم الملائكة، وغشيتهم الرّحمة، ونزلت عليهم السّكينة، وذكرهم اللّه فيمن عنده» ثمّ قال: في الحديث ترغيب عظيم في الاجتماع على الذّكر، فإنّ هذه الخصائص الأربع في كلّ واحدةٍ منها ما يثير رغبة الرّاغبين، ويقوّي عزيمة الصّالحين على ذكر اللّه. وفي الحديث أيضاً أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ للّه تعالى ملائكةً يطوفون في الطّريق يلتمسون أهل الذّكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون اللّه تنادوا: هلمّوا إلى حاجتكم، فيحفّونهم بأجنحتهم إلى السّماء الدّنيا». الحديث، وفي آخره «فيقول اللّه عزّ وجلّ: أشهدكم أنّي غفرت لهم. فيقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم، إنّما جاء لحاجةٍ، قال: هم الجلساء لا يشقى جليسهم». ومن هنا مال النّوويّ: يستحبّ الجلوس في حلق الذّكر. وأورد ما في صحيح مسلمٍ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج على حلقةٍ من أصحابه، فقال: ما أجلسكم ؟ قالوا: جلسنا نذكر اللّه ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا.. إلى أن قال: أتاني جبريل فأخبرني أنّ اللّه يباهي بكم الملائكة». وقال ابن تيميّة: الاجتماع على القراءة والذّكر والدّعاء حسن إذا لم يتّخذ سنّةً راتبةً ولا اقترن به منكر من بدعةٍ. وقال عطاء: " مجالس الذّكر هي مجالس الحلال والحرام، أي مجالس العلم " ولا يعني ذلك انحصار مجالس الذّكر المشروعة بها، بل هي من جملة مجالس الذّكر، وإنّما أراد عطاء التّنصيص على أخصّ أنواعه، وليست مجالس البدع ومزامير الشّيطان. وعن الإمام أحمد: لو اجتمع القوم لقراءةٍ ودعاءٍ وذكرٍ فعنه أنّه قال: وأيّ شيءٍ أحسن منه، وعنه: لا بأس بذلك. وعنه: أنّه محدث. ونقل عنه ابن منصورٍ: ما أكرهه إذا اجتمعوا على غير وعدٍ إلاّ أن يكثروا. قال ابن منصورٍ يعني يتّخذوه عادةً. وقال ابن عقيلٍ: أبرأ إلى اللّه من جموع أهل وقتنا في المساجد والمشاهد في ليالٍ يسمّونها إحياءً. وكرهه مالك.
41 - وهو ما ينطق به الذّاكرون المجتمعون بصوتٍ واحدٍ يوافق بعضهم بعضاً، وقد جعله الشّاطبيّ إذا التزم بدعةً إضافيّةً تجتنب، قال: إذا ندب الشّرع إلى ذكر اللّه فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسانٍ واحدٍ وصوتٍ واحدٍ لم يكن في ندب الشّرع ما يدلّ على هذا التّخصيص الملتزم، لأنّ التزام الأمور غير اللّازمة يفهم على أنّه تشريع، وخصوصاً مع من يقتدى به في مجامع النّاس كالمساجد، فإذا أظهرت هذا الإظهار ووضعت في المساجد كسائر الشّعائر كالأذان وصلاة العيدين والكسوف، فهم منها بلا شكٍّ أنّها سنّة إن لم تفهم منها الفرضيّة، فلم يتناولها الدّليل المستدلّ به، فصارت من هذه الجهة بدعاً محدثةً. ونحوه لابن الحاجّ في المدخل.
42 - ذكر اللّه تعالى حال المؤمنين عند الذّكر، فنعتهم تارةً بالوجل، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، وبالخشوع، كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ونعتهم تارةً أخرى بالطّمأنينة عند الذّكر كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. وجمع بين الأمرين في قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}. فأمّا الوجل فهو الخوف والخشية من اللّه تعالى لما يقوم بالقلب من الرّهبة عند ذكر عظمته وجلاله ونظره إلى القلوب والأعمال، وذكر أمر الآخرة وما فيها من الحساب والعقاب، فيقشعرّ الجلد بسبب الخوف الآخذ بمجامع القلوب، وخاصّةً عند تذكّرهم ما وقعوا فيه من المعصية والتّفريط في جنب اللّه. وأمّا الطّمأنينة فهي ما يحصل من لين القلب ورقّته وسكونه، وذلك إذا سمعوا ما أعدّ للمتّقين من جزيل الثّواب، وذكروا رحمته ومغفرته وصدق وعده لمن فعل الطّاعات واستقام على شرع اللّه تعالى. وقد يصحب الخشية البكاء، وفيض الدّمع، كما في الحديث عن عبد اللّه بن الشّخّير «قال: انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يصلّي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء». وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلّهم اللّه في ظلّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه..» فذكر منهم: «ورجل ذكر اللّه خاليًا ففاضت عيناه». أمّا ما يتكلّفه بعض النّاس من التّغاشي والصّعق والصّياح والشّطح فقد قال الشّاطبيّ وغيره: هو بدع مستنكرة. وقال ابن كثيرٍ: قال قتادة في قوله تعالى: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}. هذا نعت أولياء اللّه، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنّما هذا في أهل البدع. وقال الشّاطبيّ: وقد مرّ ابن عمر برجلٍ من أهل العراق ساقطٍ، والنّاس حوله، فقال: ما هذا ؟ قالوا إذا قرئ عليه القرآن، أو سمع اللّه عزّ وجلّ يذكر، خرّ من خشية اللّه، قال ابن عمر: واللّه إنّا لنخشى اللّه ولا نسقط، ثمّ قال: إنّ الشّيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. قال الشّاطبيّ: وهذا إنكار. وقيل لأسماء بنت أبي بكرٍ: إنّ ناساً هاهنا إذا سمعوا القرآن تأخذهم غشية، فقالت: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم ". وقيل لعائشة رضي الله عنها: إنّ قوماً إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم. فقالت: إنّ القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرّجال، ولكنّه كما قال اللّه تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ...} الآية. وعن أنس بن مالكٍ أنّه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون، قال: " ذلك فعل الخوارج " وهذا تنبيه منه رضي الله عنه إلى أنّ هذا فعل من لم يعلم من الدّين إلاّ ظاهره، ولم يفقه حدوده، ويظهر أنّ هذا الأمر كان في الخوارج فاشياً، كما قال أبو حمزة الشّاري يمدح أصحابه من الشّراة " كلّما مرّوا بآية خوفٍ شهقوا خوفاً من النّار، وإذا مرّوا بآية رحمةٍ شهقوا شوقاً إلى الجنّة ". وعن ابن الزّبير قال: جئت أبي، فقال: أين كنت ؟ فقلت: وجدت أقواماً يذكرون اللّه، فيرعد أحدهم حتّى يغشى عليه من خشية اللّه، فقعدت معهم. فقال: لا تقعد بعدها. فرآني كأنّه لم يأخذ ذلك في. فقال: رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن، ورأيت أبا بكرٍ وعمر يتلوان القرآن، فلا يصيبهم هذا، أفتراهم أخشع للّه من أبي بكرٍ وعمر ؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم.
43 - يزيد بعض أهل البدع عند الذّكر على ما تقدّم أموراً أخرى، قال الشّاطبيّ: يا ليتهم وقفوا عند هذا الحدّ المذموم، ولكنّهم زادوا على ذلك الرّقص والزّمر والدّوران والضّرب على الصّدور، وبعضهم يضرب على رأسه، وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى، لكونه من أعمال الصّبيان والمجانين، المبكي للعقلاء، رحمةً لهم، إذ لم يتّخذ مثل هذا طريقاً إلى اللّه وتشبّهاً بالصّالحين. وقال الآجرّيّ: يقال لمن فعل هذا: اعلم أنّ أصدق النّاس موعظةً، وأنصح النّاس لأمّته، وأرقّ النّاس قلباً، وخير النّاس من جاء بعده - أي بعد النّبيّ صلى الله عليه وسلم - لا يشكّ في ذلك عاقل، ما صرخوا عند موعظةٍ، ولا زعقوا، ولا رقصوا، ولا زفنوا، ولو كان هذا صحيحاً لكانوا أحقّ به أن يفعلوه بين يدي النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولكنّه بدعة وباطل ومنكر. ا هـ. وقال ابن عابدين: وفي الملتقى عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كره رفع الصّوت عند قراءة القرآن والجنازة والزّحف والتّذكير، فما ظنّك عند الغناء الّذي يسمّونه وجداً ومحبّةً فإنّه مكروه لا أصل له في الدّين.
44 - هذه حال مقابلة لحال المؤمنين، ومشابهة لحال الكفّار والمنافقين، قال اللّه تعالى في حقّ المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فكان وجل القلوب عند الذّكر علامةً على صدق إيمانهم وإنابتهم، وقال في شأن الكفّار {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} وفي شأن الكفّار والمنافقين {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}. وقد حذّر اللّه تعالى المؤمنين من قسوة القلب عند الذّكر بسبب طول الأمد والانشغال بما يصرف عن ذكر اللّه والاتّعاظ به فقال: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ...} وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}. وعن ابن مسعودٍ قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه بهذه الآية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلاّ أربع سنين. وعن أنسٍ قال: استبطأ اللّه قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل اللّه: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}.
45 - الإكثار من الذّكر مندوب إليه لقول اللّه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً، وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وقوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «سبق المفرّدون قالوا وما المفرّدون يا رسول اللّه ؟ قال: الذّاكرون اللّه كثيراً والذّاكرات». «وقال رجل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيءٍ أتشبّث به ؟ فقال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر اللّه». وذمّ اللّه تعالى المنافقين بأنّهم: {وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقد اختلف في الذّكر الكثير المأمور به في الآية، فقال ابن عبّاسٍ: المراد يذكرون اللّه تعالى في أدبار الصّلوات، وغدوّاً وعشيّاً، وفي المضاجع، وكلّما استيقظ من نومه، وكلّما غدا أو راح من منزله ذكر اللّه تعالى. ويوضّحه ما قاله أبو عمرو بن الصّلاح عمّا يصير به العبد من الذّاكرين اللّه كثيراً والذّاكرات، قال: إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً كان منهم. أي لأنّه إن واظب عليها فهي تشمل الأوقات والأحوال. وقال عطاء: من صلّى الصّلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في الآية. وروى أبو سعيدٍ الخدريّ وأبو هريرة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إذا أيقظ الرّجل أهله من اللّيل فصلّيا، أو صلّى ركعتين جميعاً كتبا في الذّاكرين والذّاكرات». وقال الشّوكانيّ: صدق كثرة الذّكر على من واظب على ذكر اللّه ولو قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر اللّه كثيراً من غير مواظبةٍ. وفي الحديث: «أحبّ الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلّ». ويتعلّق بالإكثار من الذّكر والمواظبة عليه أمور منها: أ - التّحزيب والأوراد وقضاء ما يفوت: 46 - قال ابن قتيبة: الحزب من القرآن الورد، وهو شيء يفرضه الإنسان على نفسه يقرؤه كلّ يومٍ. ا هـ. والمراد هنا ما يرتّبه الإنسان على نفسه من الأذكار. وفي الحديث: «من نام عن حزبه أو عن شيءٍ منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظّهر كتب له كأنّما قرأه من اللّيل». وهذا وارد في الحزب من القرآن، لكن قال النّوويّ: ينبغي لمن كان له وظيفة من الذّكر في وقتٍ من ليلٍ أو نهارٍ، أو عقب صلاةٍ، أو حالةً من الأحوال، ففاتته، أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكّن منها ولا يهملها، فإنّه إذا اعتاد عليها لم يعرّضها للتّفويت وإذا تساهل في قضائها سهل عليه تضييعها في وقتها. قال الشّوكانيّ: وقد كان الصّحابة رضوان الله عليهم يقضون ما فاتهم من أذكارهم الّتي يفعلونها في أوقاتٍ مخصوصةٍ. وقال ابن علّان: المراد بالأحوال: الأحوال المتعلّقة بالأوقات، لا المتعلّقة بالأسباب كالذّكر عند رؤية الهلال، وسماع الرّعد، ونحو ذلك فلا يندب تداركه عند فوات سببه. ومن ترك الأوراد بعد اعتيادها يكره له ذلك. ب - تكرار الأذكار وعدّها: 47 - تكرار الذّكر مشروع. وقد وردت الأحاديث الكثيرة بترتيب الأجر على أذكارٍ تكرّر، كما في الحديث «من قال لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيءٍ قدير في يومٍ مائة مرّةٍ كانت له عدل عشر رقابٍ وكتبت له مائة حسنةٍ، ومحيت عنه مائة سيّئةٍ» الحديث إلى قوله: «ولم يأت أحد بأفضل ممّا جاء به إلاّ رجل عمل أكثر منه». والتّكرار لعددٍ محدودٍ يقتضي عدَّ الذّكر بشيءٍ يحسبه به، وورد عن يُسَيْرة «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: عليكنّ بالتّسبيح والتّهليل والتّقديس، واعقدن بالأنامل فإنّهنّ مسئولات مستنطقات» يعني أنّ الأنامل تشهد للذّاكر، فأمرهنّ أن يعقدن عدد التّسبيح مستعيناتٍ بالأنامل. وعن عبد اللّه بن عمرٍو قال: «رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعقد التّسبيح». وفي روايةٍ قال: «يعقد التّسبيح بيمينه». قال ابن علّان: يحتمل أنّ المراد العقد بنفس الأنامل، أو بجملة الأصابع. قال: والعقد بالمفاصل أن يضع إبهامه في كلّ ذكرٍ على مفصلٍ، والعقد بالأصابع أن يعقدها ثمّ يفتحها. وفي شرح المشكاة: العقد هنا بما يتعارفه النّاس. ويجوز التّسبيح بالحصى والنّوى ونحو ذلك، وقد عقد أبو داود باباً بعنوان: باب التّسبيح بالحصى. أورد فيه حديث سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على امرأةٍ وبين يديها نوىً أو حصىً تسبّح به، فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا، أو أفضل، فقال: سبحان اللّه عدد ما خلق في السّماء، سبحان اللّه عدد ما خلق في الأرض، وسبحان اللّه عدد ما خلق بين ذلك، وسبحان اللّه عدد ما هو خالق، واللّه أكبر مثل ذلك، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه مثل ذلك».
48 - السّبحة كما قال ابن منظورٍ هي الخرزات الّتي يعدّ بها المسبّح تسبيحه قال: وهي كلمة مولّدة، وقد قال: المسبحة. قال الشّيخ محمّد شمس الحقّ شارح السّنن بعد أن أورد حديث سعد بن أبي وقّاصٍ السّابق ذكره: الحديث دليل على جواز عدّ التّسبيح بالنّوى والحصى، وكذا بالسّبحة، لعدم الفارق، لتقريره صلى الله عليه وسلم للمرأة على ذلك وعدم إنكاره، والإرشاد إلى ما هو أفضل منه لا ينافي الجواز. قال: وقد وردت في ذلك آثار، ولم يصب من قال إنّ ذلك بدعة. وجرى صاحب الحرز على أنّها بدعة إلاّ أنّه قال: إنّها مستحبّة، ونقل ابن علّان عن شرح المشكاة لابن حجرٍ قوله: في الحديث المذكور ندب اتّخاذ السّبحة، وزعم أنّها بدعة غير صحيحٍ، إلاّ أن يحمل على تلك الكيفيّات الّتي اخترعها بعض السّفهاء، ممّا يمحّضها للزّينة أو الرّياء أو اللّعب. ا هـ. وردّ ابن علّان القول بأنّها بدعة بأنّ إقرار النّبيّ صلى الله عليه وسلم تلك المرأة على العدّ بالحصى أو النّوى ينفي أنّها بدعة فإنّ الإقرار هو من السّنّة، والسّبحة في معنى العدّ بالحصى، إذ لا يختلف الغرض من كونها منظومةً - أي منظومةً بخيطٍ - أو منثورةً. قال: وقد أفردت السّبحة بجزءٍ لطيفٍ سمّيته " إيقاد المصابيح لمشروعيّة اتّخاذ المسابيح " أوردت فيها ما يتعلّق بها من الأخبار والآثار والاختلاف في تفاضل الاشتغال بها أو بعقد الأصابع. وحاصله أنّ العقد بالأنامل أفضل لا سيّما مع الأذكار بعد الصّلاة، أمّا في الأعداد الكثيرة الّتي يلهي الاشتغال بعدّها عن التّوجّه للذّكر فالأفضل استعمال السّبحة.
49 - المراد بجوامع الذّكر ما يقيّد فيه الذّاكر لفظ الذّكر بعددٍ كبيرٍ أو مقدارٍ عظيمٍ. وقد ورد في الإرشاد إلى ذلك أحاديث كثيرة منها حديث سعد بن أبي وقّاصٍ المتقدّم، ومنها حديث جويرية «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرةً حين صلّى الصّبح وهي في مسجدها ثمّ رجع بعدما أضحى وهي جالسة، فقال: ما زلت على الحال الّتي فارقتك عليها ؟ قالت: نعم، قال: لقد قلت بعدك أربع كلماتٍ ثلاث مرّاتٍ لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهنّ، سبحان اللّه وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته». ونحو ما ورد «ربّنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك». و «الحمد للّه حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى». قال الأبيّ: يدلّ الحديث على أنّ الذّكر الجامع يحصل به من الثّواب ما ليس كذلك. «وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يستحبّ الجوامع من الدّعاء، ويدع ما سوى ذلك». ثمّ قال: والأظهر أنّ ذلك كناية عن الكثرة لا أنّها مثل كلمات اللّه تعالى في العدد، لأنّ كلماته تعالى غير متناهيةٍ. وقال الشّوكانيّ: في الحديث دليل على أنّ من قال: عدد كذا، وزنة كذا كتب له ذلك القدر، وفضل اللّه يمنّ به على من يشاء من عباده. قال: ولا يتّجه هنا أن يقال إنّ مشقّة من قال هذا أخفّ من مشقّة من كرّر اللّفظ كثيراً، فإنّ هذا باب منحه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لعباد اللّه وأرشدهم إليه، ودلّهم عليه، تخفيفاً عليهم، وتكثيراً لأجورهم دون تعبٍ ولا نصبٍ فللّه الحمد. ونقل ابن علّان عن الشّيخ أحمد بن عبد العزيز النّويريّ قوله: قد يكون العمل القليل أفضل من العمل الكثير كقصر الصّلاة في السّفر أفضل من الإتمام، لكن لو نذر إنسان أن يقول: سبحان اللّه وبحمده عشر مرّاتٍ، فقال سبحان اللّه عدد خلقه مرّةً واحدةً فإنّه لا يخرج عن عهدة نذره لأنّ العدد هنا مقصود. وجعل إمام الحرمين نظير ذلك من نذر أن يصلّي ألف صلاةٍ فصلّى في المسجد الحرام صلاةً واحدةً، أو نذر أن يقرأ ثلث القرآن فقرأ سورة الإخلاص.
50 - صرّح الحنابلة بأنّه يحرم كتابة ذكر اللّه تعالى بشيءٍ نجسٍ أو على شيءٍ نجسٍ، فإن فعل ذلك قصداً للإهانة استحقّ القتل، لأنّه ردّة أعاذنا اللّه منها. وحيث كتب بنجسٍ وجب غسله بطاهرٍ أو حرقه لصيانته، وكذا لو كان طاهراً فتنجّس، أمّا إن لم يوجد إلاّ ماء نجس أو نار نجسة فلا يجوز الغسل والتّحريق بهما ويعدل إلى دفن الذّكر في موضعٍ طاهرٍ لا تطؤه الأقدام. ولا تكره في الذّكر كتابته في السّتور أو غيرها بغير مسجدٍ إذا لم تكن تداس، فإن كانت تداس كره كراهةً شديدةً، ويحرم دوس الذّكر. قالوا: ويكره أن يكتب على حيطان المساجد ذكر أو غيره، لأنّ ذلك يلهي المصلّي. وكره الإمام أحمد شراء ثوبٍ فيه ذكر اللّه يجلس عليه ويداس، وكره بيع الثّياب الّتي عليها ذكر اللّه لأهل الذّمّة. وفي الفروع: يحرم مسّ ذكر اللّه بنجسٍ. ولا يحرم على المحدث الذّكر أو مسّ ما فيه ذكر بخلاف القرآن، وسواء كان الحدث أصغر أو أكبر لو كان فيها شيء من القرآن. وفي تعليق الذّكر المكتوب لدفع ضررٍ واقعٍ خلاف. (ر: تعويذ ف / 23).
51 - رتّب الشّارع كثيرًا من الأذكار، في أحوالٍ مختلفةٍ. فمنها أذكار مرتّبة بحسب الزّمان كأذكار الصّباح والمساء والظّهيرة ودخول الشّهر ورؤية الهلال. ومنها أذكار بحسب المكان. ومنها أذكار في العبادات، كأذكار الصّلاة وما قبلها، وأذكار الصّوم والإفطار منه والحجّ. ومنها أذكار مرتّبة للأفعال والأحوال، كأذكار النّوم والاستيقاظ منه، وأذكار الملبس والأكل والشّرب والذّبح. وأذكار عقد النّكاح والمعاشرة، وأذكار العطاس ونحو ذلك، وكأذكارٍ تقال عند التّطيّر والتّشاؤم، وعند الكرب والشّدّة، وعند السّفر والنّزول، والرّكوب والعودة، وأذكار المجالس وغير ذلك. وقد ألّف فيها العلماء تآليف مشهورةً. ويمكن معرفتها بالرّجوع إلى مواضعها في هذه الموسوعة أو في الكتب المؤلّفة في الأذكار.
52 - ما كان من الأذكار واجبًا لم يجز أخذ الأجرة عليه. قال القليوبيّ: ما كان على مسنونٍ كالأذان والإقامة وذكر اللّه تعالى غير القرآن تجوز الإجارة عليها وأخذ الأجرة حيث كان في ذلك كلفة. ومذهب المالكيّة جواز أخذ الأجرة على الأذان. ومذهب الحنابلة، وحكاه صاحب المغني عن الحنفيّة والأوزاعيّ وابن المنذر: أنّه يكره أخذ الأجرة على الأذان.
53 - وهو بمعنى القول أو الحكاية. ويختلف حكمه بحسب الشّيء المذكور أو الشّخص المذكور، وبحسب ما يقوله عنه. والأصل أنّ الذّكر بهذا المعنى مباح، وتعرض له الأحكام الأخرى: فمنه ما يكون واجباً كأداء الشّهادة بحقٍّ. فإنّها ذكر للمشهود به. ومنه ما يكون مستحبّاً، كذكر ما يكون فيه الخير، كإصلاحٍ بين النّاس ودلالتهم على المعروف، وكذكر الفاسق المجاهر بما فيه ليعرف، وذكر أهل البدع لئلاّ يغترّ بهم. ومنه ما يكون مكروهاً كالنّطق بأمرٍ فيه شبهة التّحريم أو الدّلالة عليه. ومنه ما يكون محرّماً كالغيبة، وهي كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم «ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهتّه». وقد يكون مكفّراً كمن يذكر اللّه تعالى أو رسوله أو كتابه باستهزاءٍ أو استخفافٍ فيستحقّ قائله أن يقام عليه حدّ الرّدّة إن كان مسلماً، وينتقض عهده إن كان ذمّيّاً. وانظر: (غيبة، ردّة، استخفاف). 54 - وهو يقابل النّسيان. والذّاكر في حال المخالفة بترك الواجب أو فعل المحرّم مستحقّ للإثم،وتلزمه الأحكام المترتّبة على المخالفة سواء في حقوق اللّه تعالى أو حقوق الآدميّين. أمّا النّسيان فهو من عوارض الأهليّة، وهو عدم الاستحضار وقت الحاجة. قال شارح مسلّم الثّبوت من الحنفيّة: النّسيان عذر في حقّ الإثم مطلقاً، وأمّا في حقّ الحكم فيجب الضّمان في حقوق العباد. وأمّا في حقوق اللّه تعالى، فإن كان مع مذكّرٍ فلا عذر، كأكل النّاسي في الصّلاة مطلقاً إذ هيئاتها مذكِّرة، وصيد المحرم ناسياً إذ الإحرام مذكّر، وإن لم يكن هناك مذكّر فيكون عذراً، كالأكل في نهار رمضان ناسياً، وسلام المصلّي في القعدة الأولى ناسيًا وترك التّسمية عند الذّبح ناسياً. ويرجع لمعرفة تفصيل ذلك والخلاف فيه إلى مصطلح: (نسيان).
55 - الذّكر وإن كان أمراً يطرأ في الغالب على الإنسان دون إرادته، لكن قد يتكلّف التّذكّر فيتذكّر، ومن هنا فقد يكون مكلّفاً به لما فيه من المصالح ومن ذلك أنّ اللّه تعالى أمر بتذكّر نعمه ليشكر وليعرف الإنسان حقّ ربّه تعالى من توحيده وإفراده بالعبادة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ} وأمر تعالى بذكر الآخرة وما فيها من الهول والحساب ونعيم الجنّة وعذاب النّار ومصارع الظّالمين ممّن ساق ذكرهم في كتابه. ومن ذلك «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: أكثروا ذكر هادم اللّذّات». وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّر الآخرة». ومن هنا ذهب الفقهاء إلى أنّه يندب لكلّ إنسانٍ صحيحاً كان أو مريضاً ذكر الموت، بأن يجعله نصب عينيه، لأنّه أزجر عن المعصية وأدعى للطّاعة.
56 - امتنّ اللّه تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} وامتنّ عليه وعلى أمّته بقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وقال: {بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ} قال القرطبيّ: المراد بالذّكر هنا الشّرف. وأخبر عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنّه دعا اللّه تعالى فقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قال مجاهد: هو الثّناء الحسن، وقال ابن عطيّة: هو الثّناء وخلد المكانة باتّفاق المفسّرين. وقد أجاب اللّه دعوته فكلّ أمةٍ تتمسّك به وتعظّمه. قال القرطبيّ: ومن هنا روى أشهب عن مالكٍ: لا بأس أن يحبّ الرّجل أن يثنى عليه صالحاً، ويرى في عمل الصّالحين إذا قصد به وجه اللّه تعالى. وقد قال اللّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} أي حبّاً في قلوب عباده وثناءً حسناً. فنبّه تعالى بقوله: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} على استحباب اكتساب ما يورث الذّكر الجميل. قال ابن العربيّ: قال المحقّقون: في هذا دليل على التّرغيب في العمل الصّالح الّذي يكسب الثّناء الحسن. وممّا يؤيّد ذلك ما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يثني على من تميّز بفعلٍ أو فضلٍ من أصحابه ويحمدهم على ذلك، وكانوا يظهرون سرورهم بذلك، كقوله: «إنّي أكل قوماً إلى ما جعل اللّه في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب، قال عمرو: ما أحبّ أنّ لي بكلمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمر النّعم». «وقال صلى الله عليه وسلم: ملئ عمّار إيماناً إلى مشاشه». لكن على المؤمن في هذا الباب أن يتجنّب أموراً: الأوّل: لا ينبغي أن يطلب الحمد والثّناء بما ليس حقّاً وما لم يفعل، بأن يرائي فيظهر للنّاس ما ليس فيه من الفضائل، أو يدّعي بأفعال خيرٍ لم يفعلها، قال اللّه تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ} وقوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} نزلت في قومٍ كانوا يقولون جاهدنا وأبلينا ولم يجاهدوا، وقيل في تفسيرها غير ذلك. الثّاني: أن لا يكون قصده من العمل مجرّد الثّناء والذّكر الجميل، بل يعمل العمل الصّالح لوجه اللّه تعالى، ويسرّه أن يظهر ليقتدى به فيه، أو يعلم مكانه من الفضل سروراً بالخير أو نحو ذلك، قال ابن رشدٍ: سئل مالك عن الرّجل يحبّ أن يلقى في طريقه المجد، ويكره أن يلقى في طريقه السّوء. فأمّا ربيعة فكره ذلك وأمّا مالك فقال: إذا كان أوّل أمره ذلك وأصله للّه فلا بأس بذلك إن شاء اللّه تعالى قال اللّه تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي}. وقال تعالى: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قال مالك: فأيّ شيءٍ هذا إلاّ هذا ؟ فإنّ هذا شيء يكون في القلب لا يملكه، هذا إنّما يكون من الشّيطان ليمنعه العمل. وقال ابن العربيّ: إنّ من صلّى صلاةً ليراها النّاس ويروه فيها فيشهدوا له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظّهور لقبول الشّهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرّياء المنهيّ عنه، وإنّما الرّياء المعصية: أن يظهرها صيداً للنّاس وطريقاً للأكل. وهذا كما أنّ من طلب بالعبادة فضل اللّه تعالى في الآخرة بدخول جنّته والخلاص من ناره لا يكون فعله منافياً للإخلاص. فإن كان قصده من العمل الصّالح مجرّد العلوّ في الأرض وتحصيل المصالح العاجلة ولم يكن قصده الأوّل وجه اللّه تعالى كان ذلك محبطاً لأجره، بل كان ذلك عليه، لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً وفيه «فيقول اللّه تعالى: ولكنّك قاتلت لأن يقال جريء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار» وإن كان إنّما فعل العبادة لطلب المنزلة في قلوب النّاس فهو الرّياء المنهيّ عنه، وهو الشّرك الخفيّ. قال ابن تيميّة: فرق بين من يكون الدّين مقصوده والدّنيا وسيلةً، وبين من تكون الدّنيا مقصوده والدّين وسيلةً، والأشبه أنّ هذا ليس له في الآخرة خلاق كما دلّت على ذلك النّصوص. وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع إليه في مصطلح: (نيّة).
|